انطلق الصفير داخل محطة المترو الشهيرة بأنور السادات
وترقب الجميع ظهور ذلك المارد العملاق ليخرج من النفق المظلم
بضجيجه المعهود، وهو يبطئ من سرعته حتى يتوقف تماما أمام الركاب
وانفتحت أبوابه على المصراعين
ودارت المعركة الأبدية بين الطرفين
المغادرون ... والفريق الآخر من كان يريد أن يستقل المترو، ويتحركون بأقصى سرعتهم للمحاولة بالفوز بمقعد داخل ذلك التابوت المتحرك
وانتظرت أنا كعادتى.. حتى انطلقت الصفارة التى تعلن اقتراب إغلاق الأبواب
وقفزت قفزة رشيقة لأقف بجانب الباب
وأضع يدي في جيب البنطال وأنا أقف في هدوء وانظر إلى ساعتى الجميلة التى أهدتها لي إحدى صديقاتى الفتيات للتو ... واحسب ما تبقى لي حتى اصل إلى محطتى الأخيرة بجانب منزلى
كان الجو حارا
أكثر من المعتاد، لكنى معتاد أن أتعايش في درجات حرارة عالية بفضل نشأتى خارج البلاد
وأخرجت السماعات الخاصة بي في ضجر، وأوصلت طرفها في هاتفى الخليوى
لأستمع إلى بعض الموسيقى الهادئة
لعلها تقصر المسافة التى سأنتظرها داخل التابوت الساخن
وانسابت الموسيقى ناعمة في أذنى لترخى عضلات جسدى تدريجيا
وأسندت راسي على باب المترو وأنا أتذكر رحلتى الأخيرة في صمت
ثم لاحت ابتسامة من الشاب الواقف أمامى وهو يهمس إلى ذلك الآخر الذى يقف إلى جواره
وهو يشير بإشارة خفية إلى نقطة بعدية عن بصرى
فلم أكترث، فهذه هي عادة المراهقين في التعليقات على كهل متصاب، أو علي فتاة مبهرجة
وشيئا فشيئا
بدأت ألاحظ أن أنظار الجميع تتجه إلى هذه النقطة
حتى اشتعل الفضول في أعماقى
لكنى كنت على يقين أن الأمر لا يستحق حتى مجرد النظرة
حتى وجدت تلك السيدة التى تجلس
وهي تضع يدها على خدها وتنظر في نفس الاتجاه
وتعتريها ملامح الحسرة ... والضيق
تقدمت منها في صمت وخفوت، فلم ألحظ أن أي شخص انتبه إلى حركتى
فوقفت في بساطة
لأمد يدي بحركة تلقائية وانزع السماعات من أذنى
وكان يجب علي أن انظر بشكل طبيعي إلى تلك البقعة وأنا امسك بيدي اليمنى السماعة وأنا اخلعه من أذنى اليمنى أيضا، لأنظر إلى اليسار
وتجمدت يداي وأنا انظر إلى تلك الفتاة
تقف في نهاية العربي
وهي تعير ظهرها إلى الجميع
ممسكة بمقبض الباب وتنظر باتجاه النافذة
ولكن لم يكن هذا هو سبب اندهاش الجميع
فقد كانت شبه عارية
وهي تقف غير معيرة أي اهتمام وكأن الأمر لا يعنيها
وذلك الفستان الخفيف الضيق على صدرها يكاد أن يتمزق
وينسدل في نعومة
ليبرز تضاريس نصفها السفلى في وقاحة
واشتعل الغضب في جسدى فجأة
لكنى لم أتحرك، وزفرت في حنق
واتجهت إلى الجهة البعيدة من العربة
وأنا أترقب خروجها في أية محطة قبل أن اصرخ في وجهها
ولكنها انتظرت ... وانتظرت
ولم يتبق سوى محطتين فقط على مغادرتى
والجميع يتهامسون ويتلامزون من حولها
وفجأة
دخلت إلى العربة... سيدة عجوز ... قصيرة ... ترتدى عباءة سوداء بسيطة
وعلى وجهها علامات الذل والانكسار
شدت انتباهى وهي تحمل كيسا تضع فيه عدة أدوية.
وبدأت تستعطف الراكبين ... بكلماتها الذليلة .
ولم ينتبه إليها أحد.. على الرغم من شكواها بأن ابنتها مصابة بالسرطان
فقد كانت الأنظار كلها متوجهة إلى تلك الفتاة
فأخرجت مبلغا بسيطا لأعطيها إياه
حتى اثبت أن هناك من يسمعها، ويحاول أن يساعدها
حتى أنها لاحظت علامات الضيق على وجهى
ورفعت يديها تدعو إلي، فابتسمت بالرغم عنى وأنا أمسك يديها وأنزلها إلى جوارها متمتما بكلمات غير مسموعة
فنظرت إلي في امتنان
وأكملت طريقها داخل العربة
تستعطف القلوب التى امتلأت بالغريزة وهم يحفرون صورة ذلك الجسد في أذهانهم
وأنا أراقب العجوز في صمت
حتى وصلت إلى نهاية العربة
لتحاول أن تأخذ شيئا من تلك الفتاة
حتى مدت الفتاة يدها في حقيبتها الصغيرة لتخرج بعض النقود في يدها وتستدير إلى السيدة العجوز
لترتسم عليها أقصى درجات الدهشة وهي تحدق في السيدة
وساد الصمت العربة في شكل غريب
حتى سمع الجميع تلك الفتاة وهي تهتف بعبارة واحدة
- أمي
لترفع السيدة يدها وتنهال على الفتاة بصفعة مدوية، رجت فؤادها
وفؤاد كل الحاضرين ....
تمت ....